شعر
صفحة 1 من اصل 1
شعر
هناك نماذج من الكتابات العربية تحاول تصوير الصراع الفكري الراهن في المنطقة وكأنه بين إتجاهين: "ديمقراطي" و"ديني"، وهذه الكتابات لا تخرج عن المألوف في التاريخ العربي المعاصر حينما كان العالم، لأكثر من نصف قرن، ينقسم بين شرق "اشتراكي" وغرب "رأسمالي"، وهي الفترة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عُرفت باسم الحرب الباردة بين قطبي العالم.
فبينما كان "القطب الغربي" يطرح "الديمقراطية" كرمز له وكعلاج سحري لمشاكل المجتمعات، كان "القطب الشرقي" يدعو للاشتراكية والعدالة الاجتماعية كطرح مضاد ومقابل للطرح الغربي الرأسمالي.
وكانت دول العالم الثالث تبحث عن مكان لها في عالم تسوده القطبية الثنائية الحادة. لكن دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبيرمن آسيا) كانت تعيش همّاً إضافياً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي و"العالم الثاني" الشرقي... فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث هو التحرّر الوطني والقومي من السيطرة الاستعمارية المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
صحيح أنّ "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل لكن ذلك لا يعلو على مسألة التحرّر من سيطرة الخارج. فعندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. ويتضّح هذا الأمر أكثر بمراجعة كيفية إصرار القطب الشيوعي العالمي خلال القرن العشرين على تهميش أي دور للإرادة الوطنية الحرّة في المجتمعات التي كانت تسير في فلكه، وعلى تهميشه، بل ورفضه، لأي طرح ديمقراطي وطني مستقل. كذلك كان الأمر على الطرف الآخر الذي كان يريد تهميش كل طرح اجتماعي عادل، وإبقاء السيطرة الاقتصادية للشركات الغربية الكبرى تحت حجّة "حرية السوق" و"النظام الاقتصادي الحر" وشعارات الديمقراطية الرنّانة.
وقد سعى "الشرق" الشيوعي و"الغرب" الرأسمالي، في عقود "الحرب الباردة"، إلى وضع العالم كلّه أمام خيار "الأبيض والأسود"، فإمّا مع هذا الطرف فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل وحتى ثقافياً، وإمّا ضدّه بالكامل إذا جرى الاعتراض أو الاختلاف مع بعض طروحاته!
هذه مرحلة قد خلت لكن ما زال منهج الفرز الفكري الاستقطابي الحاد هو وسيلة القطب الغربي الأميركي من جهة، كما هو في أسلوب القوى المناهضة الآن للسياسة الأميركية، بينما يشهد العالم حالة فوضى من الطروحات التي تتفاعل داخل كل مجتمع.. وهي طروحات تشمل الدين والعلمانية ومسألة الإرهاب، والقومية والعنصرية، والإنغلاق الطائفي والعرقي في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى.
لكن هناك نماذج عالمية معاصرة قد يستفيد العرب من تجاربها:
* التجربة اليابانية: فاليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة ومهزومة وعاشت تجربة استخدام السلاح النووي ضدها - وهذا ما لم يحصل في أي مكان آخر بالعالم - ورغم ذلك استطاعت اليابان أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها لتكون الآن منافساً إقتصادياً لمن أذلّها في الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه التجربة اليابانية، يبرز التمسّك الياباني بالبعد الحضاري الخاص، وعدم الخلط بين استيراد العلم والمعرفة التكنولوجية، وبين المحافظة على التراث الثقافي القومي لليابانيين.
* التجربة الألمانية: حيث لم ييأس شعب ألمانيا من إمكانات وحدته ومن عوامل تكوينه كأمَّة واحدة - رغم تقسيم ألمانيا لدولتين وبناء ثقافتين متناقضتين فيهما لحوالي خمسين عاماً - وبناء "حائط برلين" الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هذا الحائط ولا يقبل بتدمير عناصر وحدته القومية.
وفي هذه التجربة الألمانية الفريدة، يبرز تمسّك الشعب الألماني بالبعد القومي الخاص، والذي استطاع تجاوز كل عوامل التفرقة المصطنعة التي زُرعت لنصف قرن من الزمن وسطه.
* تجربة جنوب إفريقيا: وفي هذا النموذج المهم أيضاً، تتضح أهمية القيادة السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف وعلى الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه.
فمن يرى في الأمَّة العربية، أمَّة متخلفة، فليقارنْ مع جنوب إفريقيا التي أعلن قائد تحررها من النظام العنصري، نيلسون مانديلا، أنَ نسبة الأمية في بلده كانت بعد إسقاط النظام العنصري، تفوق الـ 70% من عدد السكان!
ومن يرى في اختلاف العرب "وحروبهم القبلية" مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع جنوب إفريقيا التي لم تكن فقط مجتمعاً منقسماً بين سود وبيض، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة لعشرات السنين مع بعضها البعض.
ورغم كل عناصر الفرقة والتخلّف والأمية في جنوب افريقيا، فإن التمسّك بالهدف والإصرار على تحقيقه من خلال سبل سليمة وتحت قيادة مخلصة، حرّر جنوب إفريقيا من نظام عنصري بغيض، وحافظ على وحدة المجتمع، وأوقف الحروب الأهلية القبلية، وبدأ في بناء نظام اجتماعي ديمقراطي فيه حصّة لكل أبناء المجتمع رغم تباين اللون والعرق والمصالح!
***
ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء مجتمع عربي أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذح. فالبعد الديني والحضاري الهام لدى العرب لن يكفي وحده لمعالجة الأزمات التي تعصف الآن بالأمَّة من كلِّ حدب وصوب، ومن الداخل والخارج، فهذا البعد هو أساس هام للمنطلق ولبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأي حركة إصلاح عربية.. لكنه يحتاج إلى استكمالٍ بعناصر أخرى، خاصة في ظلّ واقع التجزئة والانقسام الذي امتزج بالتغريب الثقافي، وبطرح بدائل حضارية قديمة للحضارة العربية والإسلامية.
ففي المنطقة العربية وحدها، لا يصحّ إلا الطرح المشترك بين البعد الحضاري الديني وبين البعد العروبي القومي، ولا يمكن إسقاط أحدهما عربياً دون إسقاط الآخر، وهذا ما حصل في بلاد العرب بمطلع القرن العشرين حينما ارتبط تقسيم المنطقة بطرح التغريب الثقافي والعودة إلى الحضارات القديمة.
ولن يكون للبعدين الحضاري والعروبي، أي امكانية تغيير أو إصلاح في أحوال أمّة العرب، ما لم تتوفّر أيضاً القيادات المخلصة النزيهة التي تضع مصلحة شعوبها فوق مصالحها الخاصة، ومصالح أوطانها فوق مصالح أنظمتها ومنظماتها، والتي تضحي بنفسها في سبيل الهدف، وليس العكس!
***
ولعلَّ في كلّ هذه النماذج ودروسها ما يؤكّد الحاجة أيضاً إلى التمسّك بشعار الحرّية وأبعاده المختلفة داخلياً وخارجياً: للأنظمة والأوطان في تحرّرها من تبعية الخارج، وللشعوب في تحرّرها من أي احتلال أو نظام حكم دكتاتوري.. فالديمقراطية هي الحلّ للعلاقات السليمة المنشودة بين الأفراد والقوى المؤلِّفة للمجتمع، وأيضاً للعلاقات بين الأوطان والشعوب.
إنّ الحرّية، بمعناها الشامل، كانت وستبقى، ركن مهم في كل الرسالات السماوية، والقيم الإنسانية العامة. الحرّية التي تبقى عاجزة وناقصة إذا لم تترابط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلي. الحرّية، التي هي كالطير، بحاجة إلى تكامل جناحي الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، حتى تستطيع التحليق عالياً. الحرّية هي القضية الملازمة لوجود الإنسان أينما كان ومنذ بدء الحياة الإنسانية على الأرض. الحرّية هي التي ترتبط بحقّ الاختيار، وبالتالي، الارتباط مع ميزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشيئة لعمل شيء ما أو فعل عكسه.
من هنا تكون ضرورة الديمقراطية بما تعنيه من مسائل مرتبطة بالانتخاب والتمثيل ونظام الحكم السياسي.. لكن ليس حكماً أن ترتبط الديمقراطية السياسية بالمساواة والعدل. كذلك ليس بالضرورة أن ترتبط الممارسة الديمقراطية بالقيم الدينية والأخلاقية، وأيضاً ليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بحرّية الوطن أو الأرض، باعتبار أنها تحصل الآن كأسلوب للحكم بين المواطنين وليست كشريعة للتعامل بين الدول.
فالأنظمة الديمقراطية الغربية عموماَ حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى، فهي ديمقراطيات قامت على نهج عنصري استباح الشعوب الأخرى وثرواتها. وهي ديمقراطيات غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً، كما كان تاريخ العلاقة بين السود والبيض في أميركا رغم عدم تطابق الممارسة العنصرية مع نصوص الدستور الديمقراطي الأميركي. كذلك لجهة حقوق المرأة حيث حصلت المرأة الأميركية على حقها بالانتخاب بعد أكثر من 125 سنة من وضع الدستور!
الديمقراطية الغربية لم تكن أيضاً مرتبطة بالعدل الاجتماعي بين الناس حيث القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي.
ويظهر التناقض أيضاً حول مفهوم الديمقراطية في ممارسات بعض الدول الغربية حينما دعمت هذه الدول النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا، وحينما دعمت وتدعم الكيان الإسرائيلي القائم على هوية وعلى ديمقراطية أساسهما الدين اليهودي!.
وقد واجهت، وتواجه، دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية، تحدّيات هامّة في سعيها نحو الديمقراطية. فالممارسة الديمقراطية السليمة تحتاج إلى استقرار أمني داخلي في المجتمع ومن حوله، لأنّ أسلوب العـنف (من أي جهة صدر) يعطّل الممارسة الديمقراطية، كما أن التهديدات على وحدة الكيان الوطني تعطّل الحياة الديمقراطية.
كذلك، فإنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي وأطماعه السياسية والاقتصادية، وتحدّيات الإرادة الأجنبية في فرض التجزئة والتخلّف على الأمّة العربية منذ عشرات السنين.
إنّ الديمقراطية السياسية والتكامل الاتحادي وجهان لمشروع عربيّ واحد لمستقبل أفضل، وعماد هذا المشروع هو مفهوم الحرّية الشامل للمواطن العربي وللأوطان العربية، للإنسان وللأرض معاً.
*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)
فبينما كان "القطب الغربي" يطرح "الديمقراطية" كرمز له وكعلاج سحري لمشاكل المجتمعات، كان "القطب الشرقي" يدعو للاشتراكية والعدالة الاجتماعية كطرح مضاد ومقابل للطرح الغربي الرأسمالي.
وكانت دول العالم الثالث تبحث عن مكان لها في عالم تسوده القطبية الثنائية الحادة. لكن دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبيرمن آسيا) كانت تعيش همّاً إضافياً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي و"العالم الثاني" الشرقي... فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث هو التحرّر الوطني والقومي من السيطرة الاستعمارية المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
صحيح أنّ "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل لكن ذلك لا يعلو على مسألة التحرّر من سيطرة الخارج. فعندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. ويتضّح هذا الأمر أكثر بمراجعة كيفية إصرار القطب الشيوعي العالمي خلال القرن العشرين على تهميش أي دور للإرادة الوطنية الحرّة في المجتمعات التي كانت تسير في فلكه، وعلى تهميشه، بل ورفضه، لأي طرح ديمقراطي وطني مستقل. كذلك كان الأمر على الطرف الآخر الذي كان يريد تهميش كل طرح اجتماعي عادل، وإبقاء السيطرة الاقتصادية للشركات الغربية الكبرى تحت حجّة "حرية السوق" و"النظام الاقتصادي الحر" وشعارات الديمقراطية الرنّانة.
وقد سعى "الشرق" الشيوعي و"الغرب" الرأسمالي، في عقود "الحرب الباردة"، إلى وضع العالم كلّه أمام خيار "الأبيض والأسود"، فإمّا مع هذا الطرف فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل وحتى ثقافياً، وإمّا ضدّه بالكامل إذا جرى الاعتراض أو الاختلاف مع بعض طروحاته!
هذه مرحلة قد خلت لكن ما زال منهج الفرز الفكري الاستقطابي الحاد هو وسيلة القطب الغربي الأميركي من جهة، كما هو في أسلوب القوى المناهضة الآن للسياسة الأميركية، بينما يشهد العالم حالة فوضى من الطروحات التي تتفاعل داخل كل مجتمع.. وهي طروحات تشمل الدين والعلمانية ومسألة الإرهاب، والقومية والعنصرية، والإنغلاق الطائفي والعرقي في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى.
لكن هناك نماذج عالمية معاصرة قد يستفيد العرب من تجاربها:
* التجربة اليابانية: فاليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة ومهزومة وعاشت تجربة استخدام السلاح النووي ضدها - وهذا ما لم يحصل في أي مكان آخر بالعالم - ورغم ذلك استطاعت اليابان أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها لتكون الآن منافساً إقتصادياً لمن أذلّها في الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه التجربة اليابانية، يبرز التمسّك الياباني بالبعد الحضاري الخاص، وعدم الخلط بين استيراد العلم والمعرفة التكنولوجية، وبين المحافظة على التراث الثقافي القومي لليابانيين.
* التجربة الألمانية: حيث لم ييأس شعب ألمانيا من إمكانات وحدته ومن عوامل تكوينه كأمَّة واحدة - رغم تقسيم ألمانيا لدولتين وبناء ثقافتين متناقضتين فيهما لحوالي خمسين عاماً - وبناء "حائط برلين" الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هذا الحائط ولا يقبل بتدمير عناصر وحدته القومية.
وفي هذه التجربة الألمانية الفريدة، يبرز تمسّك الشعب الألماني بالبعد القومي الخاص، والذي استطاع تجاوز كل عوامل التفرقة المصطنعة التي زُرعت لنصف قرن من الزمن وسطه.
* تجربة جنوب إفريقيا: وفي هذا النموذج المهم أيضاً، تتضح أهمية القيادة السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف وعلى الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه.
فمن يرى في الأمَّة العربية، أمَّة متخلفة، فليقارنْ مع جنوب إفريقيا التي أعلن قائد تحررها من النظام العنصري، نيلسون مانديلا، أنَ نسبة الأمية في بلده كانت بعد إسقاط النظام العنصري، تفوق الـ 70% من عدد السكان!
ومن يرى في اختلاف العرب "وحروبهم القبلية" مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع جنوب إفريقيا التي لم تكن فقط مجتمعاً منقسماً بين سود وبيض، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة لعشرات السنين مع بعضها البعض.
ورغم كل عناصر الفرقة والتخلّف والأمية في جنوب افريقيا، فإن التمسّك بالهدف والإصرار على تحقيقه من خلال سبل سليمة وتحت قيادة مخلصة، حرّر جنوب إفريقيا من نظام عنصري بغيض، وحافظ على وحدة المجتمع، وأوقف الحروب الأهلية القبلية، وبدأ في بناء نظام اجتماعي ديمقراطي فيه حصّة لكل أبناء المجتمع رغم تباين اللون والعرق والمصالح!
***
ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء مجتمع عربي أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذح. فالبعد الديني والحضاري الهام لدى العرب لن يكفي وحده لمعالجة الأزمات التي تعصف الآن بالأمَّة من كلِّ حدب وصوب، ومن الداخل والخارج، فهذا البعد هو أساس هام للمنطلق ولبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأي حركة إصلاح عربية.. لكنه يحتاج إلى استكمالٍ بعناصر أخرى، خاصة في ظلّ واقع التجزئة والانقسام الذي امتزج بالتغريب الثقافي، وبطرح بدائل حضارية قديمة للحضارة العربية والإسلامية.
ففي المنطقة العربية وحدها، لا يصحّ إلا الطرح المشترك بين البعد الحضاري الديني وبين البعد العروبي القومي، ولا يمكن إسقاط أحدهما عربياً دون إسقاط الآخر، وهذا ما حصل في بلاد العرب بمطلع القرن العشرين حينما ارتبط تقسيم المنطقة بطرح التغريب الثقافي والعودة إلى الحضارات القديمة.
ولن يكون للبعدين الحضاري والعروبي، أي امكانية تغيير أو إصلاح في أحوال أمّة العرب، ما لم تتوفّر أيضاً القيادات المخلصة النزيهة التي تضع مصلحة شعوبها فوق مصالحها الخاصة، ومصالح أوطانها فوق مصالح أنظمتها ومنظماتها، والتي تضحي بنفسها في سبيل الهدف، وليس العكس!
***
ولعلَّ في كلّ هذه النماذج ودروسها ما يؤكّد الحاجة أيضاً إلى التمسّك بشعار الحرّية وأبعاده المختلفة داخلياً وخارجياً: للأنظمة والأوطان في تحرّرها من تبعية الخارج، وللشعوب في تحرّرها من أي احتلال أو نظام حكم دكتاتوري.. فالديمقراطية هي الحلّ للعلاقات السليمة المنشودة بين الأفراد والقوى المؤلِّفة للمجتمع، وأيضاً للعلاقات بين الأوطان والشعوب.
إنّ الحرّية، بمعناها الشامل، كانت وستبقى، ركن مهم في كل الرسالات السماوية، والقيم الإنسانية العامة. الحرّية التي تبقى عاجزة وناقصة إذا لم تترابط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلي. الحرّية، التي هي كالطير، بحاجة إلى تكامل جناحي الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، حتى تستطيع التحليق عالياً. الحرّية هي القضية الملازمة لوجود الإنسان أينما كان ومنذ بدء الحياة الإنسانية على الأرض. الحرّية هي التي ترتبط بحقّ الاختيار، وبالتالي، الارتباط مع ميزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشيئة لعمل شيء ما أو فعل عكسه.
من هنا تكون ضرورة الديمقراطية بما تعنيه من مسائل مرتبطة بالانتخاب والتمثيل ونظام الحكم السياسي.. لكن ليس حكماً أن ترتبط الديمقراطية السياسية بالمساواة والعدل. كذلك ليس بالضرورة أن ترتبط الممارسة الديمقراطية بالقيم الدينية والأخلاقية، وأيضاً ليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بحرّية الوطن أو الأرض، باعتبار أنها تحصل الآن كأسلوب للحكم بين المواطنين وليست كشريعة للتعامل بين الدول.
فالأنظمة الديمقراطية الغربية عموماَ حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى، فهي ديمقراطيات قامت على نهج عنصري استباح الشعوب الأخرى وثرواتها. وهي ديمقراطيات غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً، كما كان تاريخ العلاقة بين السود والبيض في أميركا رغم عدم تطابق الممارسة العنصرية مع نصوص الدستور الديمقراطي الأميركي. كذلك لجهة حقوق المرأة حيث حصلت المرأة الأميركية على حقها بالانتخاب بعد أكثر من 125 سنة من وضع الدستور!
الديمقراطية الغربية لم تكن أيضاً مرتبطة بالعدل الاجتماعي بين الناس حيث القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي.
ويظهر التناقض أيضاً حول مفهوم الديمقراطية في ممارسات بعض الدول الغربية حينما دعمت هذه الدول النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا، وحينما دعمت وتدعم الكيان الإسرائيلي القائم على هوية وعلى ديمقراطية أساسهما الدين اليهودي!.
وقد واجهت، وتواجه، دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية، تحدّيات هامّة في سعيها نحو الديمقراطية. فالممارسة الديمقراطية السليمة تحتاج إلى استقرار أمني داخلي في المجتمع ومن حوله، لأنّ أسلوب العـنف (من أي جهة صدر) يعطّل الممارسة الديمقراطية، كما أن التهديدات على وحدة الكيان الوطني تعطّل الحياة الديمقراطية.
كذلك، فإنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي وأطماعه السياسية والاقتصادية، وتحدّيات الإرادة الأجنبية في فرض التجزئة والتخلّف على الأمّة العربية منذ عشرات السنين.
إنّ الديمقراطية السياسية والتكامل الاتحادي وجهان لمشروع عربيّ واحد لمستقبل أفضل، وعماد هذا المشروع هو مفهوم الحرّية الشامل للمواطن العربي وللأوطان العربية، للإنسان وللأرض معاً.
*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)
حسن شمام- المساهمات : 138
تاريخ التسجيل : 22/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى