مقالة
صفحة 1 من اصل 1
مقالة
شملت الرسالات السماوية جميعها على ما يمكن فرزه بين دعوة لعبادة الخالق، وكيفيّة الاستجابة لهذه الدعوة قولاً وفعلاً، وبين جملة من القيم والمبادئ التي تحدّد دور الإنسان في الحياة. ولقد لخّص القرآن الكريم هاتين المسألتين في تكرار الربط ما بين "الإيمان والعمل الصالح". وإذا كان التعبير عن "الإيمان" يتحقّق من خلال ممارسة شعائر العبادة، فإنّ مجالات "العمل الصالح" هي المجتمع نفسه والعلاقة مع الإنسان الآخر أيّاً كان لونه وجنسه ومعتقده. وكم هو سهل التحقّق من ممارسة العبادات أو عدمها بينما من الصعب حصر ما يقوم به الإنسان من "عمل صالح" أو مدى التزامه بالقيم الدينية.
أذكر خلال فترة عملي في بيروت، منذ أكثر من عشرين عاماً، شخصاً كان يملك متجراً مجاوراً لمكان عملي، وكنت أراه يقوم بفريضة الصلاة أمام متجره أحياناً، ويحبّ أن يناديه الآخرون بلقب "الحاج" على اعتبار أنّه أدّى فريضة الحج أكثر من مرّة (بالمناسبة – ومع تقديري أنّ الحجّ فريضة العمر وأنّ الحاجّ يتكبّد المشاقّ الكثيرة لتحقيقها- فإني لا أدري لِمَ يتداول الناس لقب "الحاج" وكأنّ ذلك مشابه للقب الدكتور أو المحامي أو المهندس، علماً بأنّ الناس لا يدعون إنساناً آخراً بلقب "المصلّي" أو "المتزكّي")، وقد تبيّن فيما بعد أنّ هذا الشخص التاجر كان من كبار تجار المخدرات في بيروت، وأنّه كان يحاول استخدام المسائل الدينية الشكلية لتغطية عمله السيئ للناس وللمجتمع.
ربّما، لذلك ميّز القرآن الكريم أيضاً بين "المسلمين" و"المؤمنين"، فالإشهار بالإسلام وممارسة العبادات أمر يحكم الناس على رؤيته ووجوده، لكن فعل "الإيمان" متروكٌ إدراكه وتقدير مدى صحّته للخالق سبحانه وتعالى.
وكم هي بليغة في معانيها الآية الكريمة (33) من سورة (فصّلت): "ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين".
ففي هذه الآية يرتبط "القول الحسن"، الذي يسبق القول "إنّني من المسلمين"، بالجمع بين الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وبين العمل الصالح.
كذلك الآية (10) من سورة (فاطر): "من كان يريدُ العزّةَ فللّهِ العزّةُ جميعاً، إليه يصعدُ الكلِمُ الطيّبُ والعملُ الصالحُ يرفعُهُ، والذين يمكرونَ السيّئاتِ لهمْ عذابٌ شديدٌ وَمكْرُ أولئكَ هو يبور".
فالعمل الصالح هنا هو الذي يرفع "الكلم الطيّب"، وهو "الفعل" الذي يجب أن يرفق "القول" لكي يصل إلى الله عزّ وجل.
فأين هم الآن عامّة المسلمين من هذا التلازم الحتمي والواجب بين الإيمان والعمل الصالح، بين العبادات والقيم والمبادئ الدينية؟.
عن العلم والمنطق والعقل
كثيرون الآن في الغرب يتّهمون الإسلام بالحضّ على ممارسة العنف، وبأنّ المسلمين لا يتعاملون مع الأمور بالعقل والمنطق والعلم. ومعايير هؤلاء "الغربيين" هي وقائع أحوال مجتمعات بلدان العالم الإسلامي وما يحدث هنا وهناك من ممارسات عنفية باسم الإسلام. لكن بغضّ النظر عن الأبعاد السياسية المشبوهة في هذه الاتهامات، وعن أسباب التخلّف والعنف في المجتمعات الإسلامية، والتي يتحمّل نصيباً كبيراً منها الغرب نفسه، فإنّ بعض المسلمين يتجاهلون أحياناً القيمة الكبرى التي أعطاها الله في قرآنه الكريم لكلٍّ من العلم والمنطق والعقل.
إنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام كان أوّل المسلمين وكان في دعوته للإيمان بالله الواحد، وفي مخاطبته لقومه، وقبل هذا وذاك في كيفيّة إدراكه لوحدانيّة الله، يستند إلى المنطق والحجّة أساساً. وقد مارس ذلك حينما تساءل عن أفول المخلوقات وبأنّها لا تستحق العبادة، ثمّ في طريقة تحطيمه للأصنام إلا واحداً منها لكي يحاجج قومه بأن يسألوا الصنم المتبقّي عمّا حدث!
فقد ارتبطت الدعوة إلى الله لدى أبي الأنبياء باستخدام الحجّة والمنطق، ولم تقترن أصلاً بمعجزات أجراها الله على يديه كما حدث مع النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام.
كذلك كانت سيرة خاتم الرسل محمدّ صلّى الله عليه وسلّم، النبيّ الأمّي الذي تلقّى وحي التنزيل لقرآن بليغ معجز وهو في الأربعين من العمر، فلم تكن دعوته إلى الإيمان والعمل الصالح مقترنة بمعجزات أجراها الله على يديه، بل في نصوص قرآنية هي كلمات الله تعالى التي عجز البشر عن محاكاتها، وجاء في حوالي خمسين آية منها ذكر فعل "العقل" ومشتقاته.
فالدعوة للإيمان بالخالق الواحد اقترنت بالمنطق والحجّة، ودعت إلى استخدام العقل والتدبّر في فهم الخلق، فهكذا كانت السيرة مع أبي الأنبياء وهكذا اختتمت مع خاتمهم عليهم السلام أجمعين.
الغريب في الأمر، أنّ الغرب يستند في تراثه الديني لما هو مزيج من الرسالتين اليهودية والمسيحية، وكلاهما اعتمدتا في فترة ظهورهما على المعجزات لإقناع الناس بالدعوة إلى الإيمان بالله أكثر من الاعتماد على المنطق والحجّة والعقل!!
وقد اختار الغرب في القرون القليلة الماضية الابتعاد عن الدين مستخدماً العلم والمنهج العقلاني بمعزل عن تراثه الديني، بينما اختار الشرق (أو لنقل اضطرّ لذلك) الابتعاد عن العلم والعقلانية بظنّ ووهم أنّ ذلك يقرّبه من الدين، فإذا به يعود إلى عصر الجاهلية!!
في القرآن الكريم قيمة كبرى للعلم وللعلماء، قلَّ ما تُدرَك. وهي مسألة واضحة في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. لكن استوقفتني الآيات الكريمة (من الآية 30 إلى الآية 34 من سورة البقرة) التي فيها حوار الله تعالى مع الملائكة حول السجود لآدم، وكيف أنّ الملائكة خاطبوا الخالق عزّ وجلّ بعدما أبلغهم أنّه "جاعلٌ في الأرض خليفة"، فقالوا "أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحن نسبّحُ بحمدٍكَ ونقدّسُ لك""، فجاءت الآيات بعد ذلك تتحدّث عن الميزة التي جعلها الله تعالى في مخلوقه آدم وتقتضي من الملائكة السجود له، وهي ميزة العلم.
***
هو عصرٌ نعيشه الآن فيه مزيج من التحدّي: تحدّي الجهل عن حقيقة الإسلام لدى غير المسلمين، وتحدّي الجاهلية التي يكرّر سماتها بعض المسلمين في الأفكار والممارسات معاً
أذكر خلال فترة عملي في بيروت، منذ أكثر من عشرين عاماً، شخصاً كان يملك متجراً مجاوراً لمكان عملي، وكنت أراه يقوم بفريضة الصلاة أمام متجره أحياناً، ويحبّ أن يناديه الآخرون بلقب "الحاج" على اعتبار أنّه أدّى فريضة الحج أكثر من مرّة (بالمناسبة – ومع تقديري أنّ الحجّ فريضة العمر وأنّ الحاجّ يتكبّد المشاقّ الكثيرة لتحقيقها- فإني لا أدري لِمَ يتداول الناس لقب "الحاج" وكأنّ ذلك مشابه للقب الدكتور أو المحامي أو المهندس، علماً بأنّ الناس لا يدعون إنساناً آخراً بلقب "المصلّي" أو "المتزكّي")، وقد تبيّن فيما بعد أنّ هذا الشخص التاجر كان من كبار تجار المخدرات في بيروت، وأنّه كان يحاول استخدام المسائل الدينية الشكلية لتغطية عمله السيئ للناس وللمجتمع.
ربّما، لذلك ميّز القرآن الكريم أيضاً بين "المسلمين" و"المؤمنين"، فالإشهار بالإسلام وممارسة العبادات أمر يحكم الناس على رؤيته ووجوده، لكن فعل "الإيمان" متروكٌ إدراكه وتقدير مدى صحّته للخالق سبحانه وتعالى.
وكم هي بليغة في معانيها الآية الكريمة (33) من سورة (فصّلت): "ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين".
ففي هذه الآية يرتبط "القول الحسن"، الذي يسبق القول "إنّني من المسلمين"، بالجمع بين الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وبين العمل الصالح.
كذلك الآية (10) من سورة (فاطر): "من كان يريدُ العزّةَ فللّهِ العزّةُ جميعاً، إليه يصعدُ الكلِمُ الطيّبُ والعملُ الصالحُ يرفعُهُ، والذين يمكرونَ السيّئاتِ لهمْ عذابٌ شديدٌ وَمكْرُ أولئكَ هو يبور".
فالعمل الصالح هنا هو الذي يرفع "الكلم الطيّب"، وهو "الفعل" الذي يجب أن يرفق "القول" لكي يصل إلى الله عزّ وجل.
فأين هم الآن عامّة المسلمين من هذا التلازم الحتمي والواجب بين الإيمان والعمل الصالح، بين العبادات والقيم والمبادئ الدينية؟.
عن العلم والمنطق والعقل
كثيرون الآن في الغرب يتّهمون الإسلام بالحضّ على ممارسة العنف، وبأنّ المسلمين لا يتعاملون مع الأمور بالعقل والمنطق والعلم. ومعايير هؤلاء "الغربيين" هي وقائع أحوال مجتمعات بلدان العالم الإسلامي وما يحدث هنا وهناك من ممارسات عنفية باسم الإسلام. لكن بغضّ النظر عن الأبعاد السياسية المشبوهة في هذه الاتهامات، وعن أسباب التخلّف والعنف في المجتمعات الإسلامية، والتي يتحمّل نصيباً كبيراً منها الغرب نفسه، فإنّ بعض المسلمين يتجاهلون أحياناً القيمة الكبرى التي أعطاها الله في قرآنه الكريم لكلٍّ من العلم والمنطق والعقل.
إنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام كان أوّل المسلمين وكان في دعوته للإيمان بالله الواحد، وفي مخاطبته لقومه، وقبل هذا وذاك في كيفيّة إدراكه لوحدانيّة الله، يستند إلى المنطق والحجّة أساساً. وقد مارس ذلك حينما تساءل عن أفول المخلوقات وبأنّها لا تستحق العبادة، ثمّ في طريقة تحطيمه للأصنام إلا واحداً منها لكي يحاجج قومه بأن يسألوا الصنم المتبقّي عمّا حدث!
فقد ارتبطت الدعوة إلى الله لدى أبي الأنبياء باستخدام الحجّة والمنطق، ولم تقترن أصلاً بمعجزات أجراها الله على يديه كما حدث مع النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام.
كذلك كانت سيرة خاتم الرسل محمدّ صلّى الله عليه وسلّم، النبيّ الأمّي الذي تلقّى وحي التنزيل لقرآن بليغ معجز وهو في الأربعين من العمر، فلم تكن دعوته إلى الإيمان والعمل الصالح مقترنة بمعجزات أجراها الله على يديه، بل في نصوص قرآنية هي كلمات الله تعالى التي عجز البشر عن محاكاتها، وجاء في حوالي خمسين آية منها ذكر فعل "العقل" ومشتقاته.
فالدعوة للإيمان بالخالق الواحد اقترنت بالمنطق والحجّة، ودعت إلى استخدام العقل والتدبّر في فهم الخلق، فهكذا كانت السيرة مع أبي الأنبياء وهكذا اختتمت مع خاتمهم عليهم السلام أجمعين.
الغريب في الأمر، أنّ الغرب يستند في تراثه الديني لما هو مزيج من الرسالتين اليهودية والمسيحية، وكلاهما اعتمدتا في فترة ظهورهما على المعجزات لإقناع الناس بالدعوة إلى الإيمان بالله أكثر من الاعتماد على المنطق والحجّة والعقل!!
وقد اختار الغرب في القرون القليلة الماضية الابتعاد عن الدين مستخدماً العلم والمنهج العقلاني بمعزل عن تراثه الديني، بينما اختار الشرق (أو لنقل اضطرّ لذلك) الابتعاد عن العلم والعقلانية بظنّ ووهم أنّ ذلك يقرّبه من الدين، فإذا به يعود إلى عصر الجاهلية!!
في القرآن الكريم قيمة كبرى للعلم وللعلماء، قلَّ ما تُدرَك. وهي مسألة واضحة في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. لكن استوقفتني الآيات الكريمة (من الآية 30 إلى الآية 34 من سورة البقرة) التي فيها حوار الله تعالى مع الملائكة حول السجود لآدم، وكيف أنّ الملائكة خاطبوا الخالق عزّ وجلّ بعدما أبلغهم أنّه "جاعلٌ في الأرض خليفة"، فقالوا "أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحن نسبّحُ بحمدٍكَ ونقدّسُ لك""، فجاءت الآيات بعد ذلك تتحدّث عن الميزة التي جعلها الله تعالى في مخلوقه آدم وتقتضي من الملائكة السجود له، وهي ميزة العلم.
***
هو عصرٌ نعيشه الآن فيه مزيج من التحدّي: تحدّي الجهل عن حقيقة الإسلام لدى غير المسلمين، وتحدّي الجاهلية التي يكرّر سماتها بعض المسلمين في الأفكار والممارسات معاً
حسن شمام- المساهمات : 138
تاريخ التسجيل : 22/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى