رواية
صفحة 1 من اصل 1
رواية
كان مازن وزوجته صفية يتسامرون والجدة عائشة تحدثهم عن أيام الخير ، في حين كان الأولاد يلعبون في طرف المقاثي البعيد .
كان هناك عش للدبابير ، كل ولد يحمل قطعة تنك مربعة أو مستطيلة ، ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ضارباً الدبور الذي يقترب منه ، وعندما يسقط الدبور طريحاً على الأرض غير قادر على الطيران ، يدوسه بقدمه أو يقترب منه ، ينزع زبانته التي يلدغ بها ، ويحتفظ به في علبة ، وعندما تهدأ الدبابير ، يرجمون عشها بالحجارة فتثور من جديد .
كان أكثرهم حنكة ودراية في محاربة الدبابير فراس، فهو أكبرهم سناً ، هو الآن في العاشرة من عمره ، واثنان من أبناء الجيران من جيله ، فهم أبناء صف واحد ، فدبّر لهم خطة حسب رأيه سيقضي بها على جميع الدبابير ، وقد اكتسب هذه الخبرة بعد مراقبة الدبابير لعدة أيام ، قال لهم : انظروا إن الدبابير تطير من جحرها إلى أعلى ، سأتقدم أنا وصديقي إسماعيل إلى الجحر نحرك الدبابير داخل الجحر بالعصا ، وعندما تطير ، ننبطح أرضاً ، وتطير هي إلى أعلى ، ونقوم بمحاربتها ، انتم وقوفاً ونحن منبطحان على ظهورنا .
اقترب فراس وإسماعيل من الجحر ، مدّا عصاتيهما إلى الجحر وحركاهما بسرعة فائقة، ثم رمى كل واحد منهم جسده على الأرض بجانب بعضهما البعض ، واحد على يمين جحر الدبابير والآخر على يساره ، فخرجت الدبابير مذعورة وأشبعتهم لسعاً ، عشرات اللسعات في وجوههم وأيديهم وصدورهم ، صراخهم ملأ المنطقة ، اقترب الآخرون منهم لحمايتهم، فكان نصيب كل واحد منهم لسعة أو لسعتين ، إلا يزيد فقد هرب باتجاه الخيمة يصيح بأعلى صوته .
هرع مازن وزوجته صفية باتجاه يزيد يستطلعون الأمر ، في حين كانت تتبعهم الجدة عائشة تتوكأ على عصاها وهي تردد : خير ، اللهم اجعله خير .
وعندما وصل مازن وصفية إلى الأولاد ، جرّا فراس وإسماعيل ولم يتبينا وجهيهما من شدة الورم الناتج عن لسعات الدبابير .
حملوهما إلى المستشفى ، كما استعانا بالجيران لحمل بقية الأطفال ، وفي مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزيتون ، رقد فراس وإسماعيل على سريرين متجاورين ، بعد أن قدم لهما الأطباء العلاج اللازم ، رقدا تحت المراقبة في غرفة الإنعاش المكثف ، في حين تلقى الأطفال الآخرون العلاج في غرفة الطوارئ ، كل واحد منهم حقنة في الوريد وحبتين ، وكتب الطبيب المناوب لكل واحد منهم وصفة طبية .
عادت رباب ويزيد مع احد الجيران ليبقيا في صحبة جدتهما التي تركت الخيمة في المقاثي ، وعادت بهما إلى بيتها في جبل المكبر ، في حين بقي مازن وصفية أمام غرفة الإنعاش ، ينتظرون تحسن حالة ابنهما فراس ، وكذلك فعل والدا إسماعيل .
بدأ الورم يخف شيئاً فشيئاً ، وبقي فراس وإسماعيل على سرير الشفاء مدة أسبوعين ، وبعد يومين نقلهما الأطباء من غرفة الإنعاش إلى قسم الأمراض الداخلية ، فأخذ فراس يشرح لوالديه عن خططه في محاربة الدبابير ، بحجة أنها كانت تعتدي على المقاثي ، وتخرب ثمارها .
الحسد هو السبب
بقيت الجدة جالسة على سجادة الصلاة بعد أن أدّت فريضة المغرب بين يدي ربها ، رفعت يديها بعد الصلاة ، وأطالت في دعائها لفراس وإسماعيل ، كانت دموعها تنساب من على وجنتيها لترسم على الوجه الذي حفر عليه الزمن وشقاوة الحياة أخاديد لن تنمحي . تارة تشتم الدبابير والمقاثي وزارعيها ، وتارة تدعو الله أن يعمي النساء الحاسدات اللواتي كن يرين فراس وقامته الطويلة التي تفوق قامة أبناء جيله ، ولا يذكرن ربّهن ، ليدرأن الحسد من عيونهن الفارغة التي لم ولن يملأها إلا الحصا والتراب .
وفجأة رفعت يدها اليمنى وضربت الهواء وهي تقول :
لعن الله أباك يا صفية !! كم مرة قلت لك أن الولد يحلو في عيني والديه ، وعليك أن ترقيه كل ليلة، وان تبقي الخرزة الزرقاء في رقبته ليل نهار ؟!
كانت رباب وأخوها يزيد ينظران إلى حركة جدتهما باستغراب ، يزيد يقترب من رباب ، ويمسك بفستانها ، وهو ينظر إلى شفتي الجدة ، عندما ينطبقان على بعضهما البعض مثنيتان إلى داخل الفم الذي يخلو من الأسنان ، مخرجتان صوتا كالتقاء حرفي الباء أولاهما مفتوحا والثاني ساكناً " بَبْ " بينما كانت حركة لسانها شبيهة بلسان أفعى ، ويتراجع إلى الخلف عندما يحدق بعيني الجدة الغائرتين في رأسها ، وكأن الجفون المنكمشة لم تعد قادرة على الإطباق عليهما عندما ترمش ، في حين كانت رباب تكتم ضحكة حبيسة لو انطلقت لكانت كخرير ماء عذب على مقربة من عطشان لا يستطيع الوصول إليها .
وفجأة توقفت حركة الجدة عندما طلبت من رباب أن تحضر لها كيس الملح من المطبخ ، وكانت صورة فراس الجاثمة في برواز أنيق على زاوية طاولة المكتب .
ملأت يدها اليمنى بالملح ، وأخذت تحركها بشكل دائري على صورة فراس التي وضعتها أمامها، وشرعت تردد بعد أن بسملت ، وحمدت الله ، وصلت على رسوله الأعظم والأنبياء أجمعين :
محمد اترقى واسترقى
من كل عين برقا
ومن كل سن فرقا
اترقى للصبيان من عثرات الزمان
واترقى للخيل في ظلام الليل
ثم صغرت قطر الدائرة التي ترسمها بيدها حول الصورة وأردفت تقول :
حوطتك بالله من عيني
ومن عيون خلق الله
من دارلك باله
يشغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه
ما نيش اقدر من ربه عليه
***
عين الجار فيها نار
عين الضيف فيها سيف
وعين الجارة فيها نارة
ثم قرأت سورة الإخلاص ثلاث مرات ، والمعوذتين، ثم الفاتحة عن روح الرسول عليه السلام وأمواتها وأموات المسلمين أجمعين ، وأعادت حفنة الملح إلى الكيس ، وتثاءبت أكثر من مرة .
وابتسمت بعد ذلك وهي تحمد الله وتقول :
انفرجت إن شاء الله ، انفرجت ، وعادت السعادة إلى وجهها .
فسألتها رباب : ما هي التي انفرجت يا جدتي ؟
- حالة فراس يا بنيتي تحسنت ، ولم يعد بإذن الله خطر على حياته .
وكيف عرفت يا جدتي ؟
- عندما تثاءبت بعد " الرقية " خرجت العيون الحاسدة من جسده ، وارتدت إلى نحور صاحباتها ، لعنة الله عليهن ، لا يشبعن ولا يقنعن بما يعطيهن الله إياه، كل سنة يحبلن ويلدن ، وأولادهن كالتوائم ، ومع ذلك عيونهن فارغة ، ودائما ينظرن إلى أبناء الآخرين .
وهل تعرفيهن يا جدتي ؟
- نعم اعرفهن وأسأل الله أن يكف شرّهن عنا .
ومن هن يا جدتي ؟
- لا .. لا .. لن أقول لك من هن ؟!
ولماذا ؟!
- لأنني لا أريد المشاكل .. ولا أحب القيل والقال !
ولكن كيف عرفتيهن يا جدتي ؟
- أثناء " الرقية " ترتسم صورهن أمامي واراهن !!
ولكنني لم أشاهدهن مثلك يا جدتي .. لماذا ؟؟
- اسكتي يا بنية .. فأنت لا تزالين صغيرة .
وهل عندما سأكبر مثلك سأشاهدهن مثلما ترينهن يا جدتي ؟!
- الله يبعد شرّهن عنك وعن غيرك يا بنية .
كان يزيد يوزع نظراته الحائرة بين جدته وبين شقيقته غير مستوعب للحديث الذي دار بينهما ، فنادته الجدة وأجلسته في حضنها ، مررت يدها اليمنى على رأسه ، ملّست على شعره أكثر من مرّة ، ثنت رأسه إلى الخلف قليلاً، قبلت جبينه وهي تردد :
حوطتك بالله من عيني وعين خلق الله .
انتبهت رباب لذلك فسألت الجدة .. وهل عينك تحسد يا جدتي ؟؟
- اخرسي يا بنت قطع الله لسانك .. لماذا تقولين هذا ؟؟
الم تحوطي يزيد من عينك وعين خلق الله ؟؟
ضحكت الجدة وقالت : لا .. أنا لا احسد يا رباب، ولكنني أؤمن أن الولد يحلو في عيون والديه ، ثم قرأت سورة الفلق .
إذن لماذا لا تُحوطيني بالله من عينك وعيون خلق الله كما فعلت ليزيد ؟؟
- البنات لا يُصبن بالحسد يا رباب .
لماذا يا جدتي ؟
- لان الولد يختلف عن البنت !! فالبنات أقوى من الأولاد ، إنهن كالخبيزة التي تنمو على المزابل ، تنمو أكثر من غيرها التي تنمو في الأماكن النظيفة ، والبنات لا تخترق عيون الحاسدين أجسادهن !
وهل يحسد الرجال البنات يا جدتي ؟
- لا .. لا .. يا بنية الرجال يحسدون الأولاد الذكور فقط ، لكن عيون النساء حاسدة أكثر من عيون الرجال !!
ولماذا لا يحسد الرجال البنات ما دامت النساء تحسد الأولاد ؟!
- لأنهم لا يحبون البنات مثل النساء ، ويريدون أن يكون جميع خلفهم ذكوراً !
صمتت رباب قليلاً ثم سألت :
لو أنجبت جميع النساء أولادا ذكوراً فقط ، من أين سيتزوج هؤلاء الذكور ؟! أم هل سيتزوجون بعضهم البعض ؟!
- اخرسي يا بنت لا تزالين صغيرة على هذا الكلام .
سكتت رباب قليلاً ثم سألت :
هل يحمل الرجال يا جدتي ؟
- يحملون ماذا يا بنية ؟
هل يحملون أطفالا في بطونهم كالنساء ؟
- الله يحملك ويريحنا منك .
شعرت رباب بمرارة في نفسها ، تكدرت نفسيتها ولاذت بالصمت ، ثم ما لبثت أن اتجهت إلى التلفاز وشغلته ، فصاحت بها جدتها قائلة :
- أغلقي التلفاز يا قصيرة العمر .
ولماذا أغلقه يا جدتي ؟ كل يوم نشاهد التلفاز ما معنى هذا اليوم ممنوع ؟
- ألا تعرفين ؟! تريدين فتح التلفاز وفراس في المستشفى ؟! ماذا سيقول الناس عنّا ؟
ماذا سيقول الناس ؟! كلهم في بيوتهم أجهزة تلفاز ، وكلهم يشاهدونه ...
- لكن أبناءهم ليسوا في المستشفى كفراس قالت الجدة ..
وهل تريدين أبناءهم أن يدخلوا في المستشفى كفراس يا جدتي ؟!
- لا .. لا أريد .. ولكن أغلقي التلفاز واسكتي ؟!
أغلقت رباب التلفاز وذهبت لتنام على سريرها ، بعد دقائق صلت الجدة صلاة العشاء ، وذهبت إلى غرفة نوم رباب ، بسملت وغطتها ، ثم أحضرت فرشة فرشتها في الغرفة ، ووضعت يزيد في حضنها ، استيقظ وأراد أن يذهب إلى سريره ، لكن الجدة منعته خوفاً عليه.
بقيت الجدة مستيقظة تنتظر مازن وصفية، أو احدهما على الأقل ليحمل أخباراً سارة عن وضع فراس ، لكن أحداً منهما لم يعد ، ممّا زاد من قلق الجدة .
فكرت الجدة بان تستعين بأحد الجيران كي يحملها بسيارته إلى المستشفى لتطمئن على فراس ، لكن قلبها لم يطاوعها أن تترك الحفيدين رباب ويزيد وحدهما .
بعد أن غفا يزيد ، انسلت الجدة من جانبه بخفة ، اتكأت على الحائط دون أن تحمل عصاها خوفا من أن يستيقظ الطفلان ، نظرت إلى رباب وهي غافية في سريرها وسألت ربها قائلة :
لماذا يا ربّ لم تخلق رباب ولداً ذكراً لتكون عوناً لوالدها ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لو كانت " "مقصوفة " العمر ولداً لما غلبها احد ، وأما " البنات فهمهن للممات ".
عادت الجدة إلى الفراش ، احتضنت يزيد وضمته إلى صدرها ، كانت قلقة كالملدوغ تنام ساعة وتفيق أخرى من شدة قلقها على فراس ، مع أنها اطمأنت على صحته بعد أن تثاءبت في أعقاب رقيها له.
وعندما نادى المؤذن لصلاة الصبح ، قامت وصلّت ، ثم جلست على سجادة الصلاة تداعب خرزات مسبحتها بيدها . وقبل الضحى عاد مازن وصفية من المستشفى تعبين ، طرحا عليها تحية الصباح ، وقبل أن ترد على التحية بمثلها أو بأحسن ، استفسرت عن فراس ، فأخبرها مازن بأنه بخير، ولا خطر عليه فسألت :
- لماذا لم تحضراه معكما ؟
لأنه بحاجة إلى مراقبة طبية .
- وماذا ستفيده المراقبة الطبية ؟!
الأطباء أدرى بعملهم .
- لا .. إنهم لا يعرفون شيئاً ، بعد أن صليت المغرب ، عملت له " رقية " من عيون الحاسدات ، وتثاءبت ، فتأكد لي انه بخير ، ولولا " الرقية " التي عملتها لما أفاده الأطباء شيئاً.
ضحك مازن وصفية وقالا : الله يحفظك لنا ، ودخل مازن إلى غرفة النوم لينام ، في حين عرجت صفية على غرفة الأولاد ، وجدتهما مستيقظين ، قبلتهما ، وذهبت إلى المطبخ فأعدت لهما وللجدة طعام الفطور ، وبعد أن تناولا وجبتهما دخلت إلى غرفة النوم لتنام قليلاً ، فتبعها صوت الجدة يقول : ابتعدي عن مازن ، ولا تدخلي عنده .. دعيه يستريح ، فلم تكترث لذلك صفية ، دخلت إلى الغرفة ، استبدلت ملابسها ، واستلقت بجانب مازن على السرير منهكة .
لم يطل نوم صفية ، ربما نامت حوالي ساعتين ، ونهضت لإسكات رباب ويزيد حتى يتسنى لوالدهما أن يأخذ حاجته من النوم ، وكذلك الجدة غطت في نوم عميق لم يخلصها منه إلا أذان الظهر . في حين لم يستيقظ مازن إلا في الساعة الثالثة من بعد الظهر ، تناولوا طعامهم ، واستقلوا السيارة جميعهم لزيارة فراس في المستشفى ، كان الورم قد خفّ قليلاً في وجهه ، فعاد يستطيع فتح جزء من جفنيه ليرى من يجلس بجانبه ، وعندما رأته الجدة صرخت بصوت أذعر المرضى والزائرين الآخرين في الغرفة ، كما كان كافياً لهرولة الأطباء والممرضات إلى مصدر الصوت ظناً منهم أن احد المرضى قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، فهذه الصيحة لا تصدر إلا عن والدة ثكلى ، في حين تعوذت الجدة بالله من الشيطان الرجيم ورددت بسيطة .. بسيطة ..
اعتذر مازن للأطباء وللممرضات وللمرضى والزائرين عن صرخة والدته المدوية ، ومازح فراس قليلاً ، وطلب من والدته وزوجته وأبنائه أن يخرجوا من غرفة الإنعاش المكثف ليتركوا المرضى مرتاحين ، قاومت والدته محاولة عدم الخروج لكنها استسلمت في النهاية وخرجت .
كان هناك عش للدبابير ، كل ولد يحمل قطعة تنك مربعة أو مستطيلة ، ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ضارباً الدبور الذي يقترب منه ، وعندما يسقط الدبور طريحاً على الأرض غير قادر على الطيران ، يدوسه بقدمه أو يقترب منه ، ينزع زبانته التي يلدغ بها ، ويحتفظ به في علبة ، وعندما تهدأ الدبابير ، يرجمون عشها بالحجارة فتثور من جديد .
كان أكثرهم حنكة ودراية في محاربة الدبابير فراس، فهو أكبرهم سناً ، هو الآن في العاشرة من عمره ، واثنان من أبناء الجيران من جيله ، فهم أبناء صف واحد ، فدبّر لهم خطة حسب رأيه سيقضي بها على جميع الدبابير ، وقد اكتسب هذه الخبرة بعد مراقبة الدبابير لعدة أيام ، قال لهم : انظروا إن الدبابير تطير من جحرها إلى أعلى ، سأتقدم أنا وصديقي إسماعيل إلى الجحر نحرك الدبابير داخل الجحر بالعصا ، وعندما تطير ، ننبطح أرضاً ، وتطير هي إلى أعلى ، ونقوم بمحاربتها ، انتم وقوفاً ونحن منبطحان على ظهورنا .
اقترب فراس وإسماعيل من الجحر ، مدّا عصاتيهما إلى الجحر وحركاهما بسرعة فائقة، ثم رمى كل واحد منهم جسده على الأرض بجانب بعضهما البعض ، واحد على يمين جحر الدبابير والآخر على يساره ، فخرجت الدبابير مذعورة وأشبعتهم لسعاً ، عشرات اللسعات في وجوههم وأيديهم وصدورهم ، صراخهم ملأ المنطقة ، اقترب الآخرون منهم لحمايتهم، فكان نصيب كل واحد منهم لسعة أو لسعتين ، إلا يزيد فقد هرب باتجاه الخيمة يصيح بأعلى صوته .
هرع مازن وزوجته صفية باتجاه يزيد يستطلعون الأمر ، في حين كانت تتبعهم الجدة عائشة تتوكأ على عصاها وهي تردد : خير ، اللهم اجعله خير .
وعندما وصل مازن وصفية إلى الأولاد ، جرّا فراس وإسماعيل ولم يتبينا وجهيهما من شدة الورم الناتج عن لسعات الدبابير .
حملوهما إلى المستشفى ، كما استعانا بالجيران لحمل بقية الأطفال ، وفي مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزيتون ، رقد فراس وإسماعيل على سريرين متجاورين ، بعد أن قدم لهما الأطباء العلاج اللازم ، رقدا تحت المراقبة في غرفة الإنعاش المكثف ، في حين تلقى الأطفال الآخرون العلاج في غرفة الطوارئ ، كل واحد منهم حقنة في الوريد وحبتين ، وكتب الطبيب المناوب لكل واحد منهم وصفة طبية .
عادت رباب ويزيد مع احد الجيران ليبقيا في صحبة جدتهما التي تركت الخيمة في المقاثي ، وعادت بهما إلى بيتها في جبل المكبر ، في حين بقي مازن وصفية أمام غرفة الإنعاش ، ينتظرون تحسن حالة ابنهما فراس ، وكذلك فعل والدا إسماعيل .
بدأ الورم يخف شيئاً فشيئاً ، وبقي فراس وإسماعيل على سرير الشفاء مدة أسبوعين ، وبعد يومين نقلهما الأطباء من غرفة الإنعاش إلى قسم الأمراض الداخلية ، فأخذ فراس يشرح لوالديه عن خططه في محاربة الدبابير ، بحجة أنها كانت تعتدي على المقاثي ، وتخرب ثمارها .
الحسد هو السبب
بقيت الجدة جالسة على سجادة الصلاة بعد أن أدّت فريضة المغرب بين يدي ربها ، رفعت يديها بعد الصلاة ، وأطالت في دعائها لفراس وإسماعيل ، كانت دموعها تنساب من على وجنتيها لترسم على الوجه الذي حفر عليه الزمن وشقاوة الحياة أخاديد لن تنمحي . تارة تشتم الدبابير والمقاثي وزارعيها ، وتارة تدعو الله أن يعمي النساء الحاسدات اللواتي كن يرين فراس وقامته الطويلة التي تفوق قامة أبناء جيله ، ولا يذكرن ربّهن ، ليدرأن الحسد من عيونهن الفارغة التي لم ولن يملأها إلا الحصا والتراب .
وفجأة رفعت يدها اليمنى وضربت الهواء وهي تقول :
لعن الله أباك يا صفية !! كم مرة قلت لك أن الولد يحلو في عيني والديه ، وعليك أن ترقيه كل ليلة، وان تبقي الخرزة الزرقاء في رقبته ليل نهار ؟!
كانت رباب وأخوها يزيد ينظران إلى حركة جدتهما باستغراب ، يزيد يقترب من رباب ، ويمسك بفستانها ، وهو ينظر إلى شفتي الجدة ، عندما ينطبقان على بعضهما البعض مثنيتان إلى داخل الفم الذي يخلو من الأسنان ، مخرجتان صوتا كالتقاء حرفي الباء أولاهما مفتوحا والثاني ساكناً " بَبْ " بينما كانت حركة لسانها شبيهة بلسان أفعى ، ويتراجع إلى الخلف عندما يحدق بعيني الجدة الغائرتين في رأسها ، وكأن الجفون المنكمشة لم تعد قادرة على الإطباق عليهما عندما ترمش ، في حين كانت رباب تكتم ضحكة حبيسة لو انطلقت لكانت كخرير ماء عذب على مقربة من عطشان لا يستطيع الوصول إليها .
وفجأة توقفت حركة الجدة عندما طلبت من رباب أن تحضر لها كيس الملح من المطبخ ، وكانت صورة فراس الجاثمة في برواز أنيق على زاوية طاولة المكتب .
ملأت يدها اليمنى بالملح ، وأخذت تحركها بشكل دائري على صورة فراس التي وضعتها أمامها، وشرعت تردد بعد أن بسملت ، وحمدت الله ، وصلت على رسوله الأعظم والأنبياء أجمعين :
محمد اترقى واسترقى
من كل عين برقا
ومن كل سن فرقا
اترقى للصبيان من عثرات الزمان
واترقى للخيل في ظلام الليل
ثم صغرت قطر الدائرة التي ترسمها بيدها حول الصورة وأردفت تقول :
حوطتك بالله من عيني
ومن عيون خلق الله
من دارلك باله
يشغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه
ما نيش اقدر من ربه عليه
***
عين الجار فيها نار
عين الضيف فيها سيف
وعين الجارة فيها نارة
ثم قرأت سورة الإخلاص ثلاث مرات ، والمعوذتين، ثم الفاتحة عن روح الرسول عليه السلام وأمواتها وأموات المسلمين أجمعين ، وأعادت حفنة الملح إلى الكيس ، وتثاءبت أكثر من مرة .
وابتسمت بعد ذلك وهي تحمد الله وتقول :
انفرجت إن شاء الله ، انفرجت ، وعادت السعادة إلى وجهها .
فسألتها رباب : ما هي التي انفرجت يا جدتي ؟
- حالة فراس يا بنيتي تحسنت ، ولم يعد بإذن الله خطر على حياته .
وكيف عرفت يا جدتي ؟
- عندما تثاءبت بعد " الرقية " خرجت العيون الحاسدة من جسده ، وارتدت إلى نحور صاحباتها ، لعنة الله عليهن ، لا يشبعن ولا يقنعن بما يعطيهن الله إياه، كل سنة يحبلن ويلدن ، وأولادهن كالتوائم ، ومع ذلك عيونهن فارغة ، ودائما ينظرن إلى أبناء الآخرين .
وهل تعرفيهن يا جدتي ؟
- نعم اعرفهن وأسأل الله أن يكف شرّهن عنا .
ومن هن يا جدتي ؟
- لا .. لا .. لن أقول لك من هن ؟!
ولماذا ؟!
- لأنني لا أريد المشاكل .. ولا أحب القيل والقال !
ولكن كيف عرفتيهن يا جدتي ؟
- أثناء " الرقية " ترتسم صورهن أمامي واراهن !!
ولكنني لم أشاهدهن مثلك يا جدتي .. لماذا ؟؟
- اسكتي يا بنية .. فأنت لا تزالين صغيرة .
وهل عندما سأكبر مثلك سأشاهدهن مثلما ترينهن يا جدتي ؟!
- الله يبعد شرّهن عنك وعن غيرك يا بنية .
كان يزيد يوزع نظراته الحائرة بين جدته وبين شقيقته غير مستوعب للحديث الذي دار بينهما ، فنادته الجدة وأجلسته في حضنها ، مررت يدها اليمنى على رأسه ، ملّست على شعره أكثر من مرّة ، ثنت رأسه إلى الخلف قليلاً، قبلت جبينه وهي تردد :
حوطتك بالله من عيني وعين خلق الله .
انتبهت رباب لذلك فسألت الجدة .. وهل عينك تحسد يا جدتي ؟؟
- اخرسي يا بنت قطع الله لسانك .. لماذا تقولين هذا ؟؟
الم تحوطي يزيد من عينك وعين خلق الله ؟؟
ضحكت الجدة وقالت : لا .. أنا لا احسد يا رباب، ولكنني أؤمن أن الولد يحلو في عيون والديه ، ثم قرأت سورة الفلق .
إذن لماذا لا تُحوطيني بالله من عينك وعيون خلق الله كما فعلت ليزيد ؟؟
- البنات لا يُصبن بالحسد يا رباب .
لماذا يا جدتي ؟
- لان الولد يختلف عن البنت !! فالبنات أقوى من الأولاد ، إنهن كالخبيزة التي تنمو على المزابل ، تنمو أكثر من غيرها التي تنمو في الأماكن النظيفة ، والبنات لا تخترق عيون الحاسدين أجسادهن !
وهل يحسد الرجال البنات يا جدتي ؟
- لا .. لا .. يا بنية الرجال يحسدون الأولاد الذكور فقط ، لكن عيون النساء حاسدة أكثر من عيون الرجال !!
ولماذا لا يحسد الرجال البنات ما دامت النساء تحسد الأولاد ؟!
- لأنهم لا يحبون البنات مثل النساء ، ويريدون أن يكون جميع خلفهم ذكوراً !
صمتت رباب قليلاً ثم سألت :
لو أنجبت جميع النساء أولادا ذكوراً فقط ، من أين سيتزوج هؤلاء الذكور ؟! أم هل سيتزوجون بعضهم البعض ؟!
- اخرسي يا بنت لا تزالين صغيرة على هذا الكلام .
سكتت رباب قليلاً ثم سألت :
هل يحمل الرجال يا جدتي ؟
- يحملون ماذا يا بنية ؟
هل يحملون أطفالا في بطونهم كالنساء ؟
- الله يحملك ويريحنا منك .
شعرت رباب بمرارة في نفسها ، تكدرت نفسيتها ولاذت بالصمت ، ثم ما لبثت أن اتجهت إلى التلفاز وشغلته ، فصاحت بها جدتها قائلة :
- أغلقي التلفاز يا قصيرة العمر .
ولماذا أغلقه يا جدتي ؟ كل يوم نشاهد التلفاز ما معنى هذا اليوم ممنوع ؟
- ألا تعرفين ؟! تريدين فتح التلفاز وفراس في المستشفى ؟! ماذا سيقول الناس عنّا ؟
ماذا سيقول الناس ؟! كلهم في بيوتهم أجهزة تلفاز ، وكلهم يشاهدونه ...
- لكن أبناءهم ليسوا في المستشفى كفراس قالت الجدة ..
وهل تريدين أبناءهم أن يدخلوا في المستشفى كفراس يا جدتي ؟!
- لا .. لا أريد .. ولكن أغلقي التلفاز واسكتي ؟!
أغلقت رباب التلفاز وذهبت لتنام على سريرها ، بعد دقائق صلت الجدة صلاة العشاء ، وذهبت إلى غرفة نوم رباب ، بسملت وغطتها ، ثم أحضرت فرشة فرشتها في الغرفة ، ووضعت يزيد في حضنها ، استيقظ وأراد أن يذهب إلى سريره ، لكن الجدة منعته خوفاً عليه.
بقيت الجدة مستيقظة تنتظر مازن وصفية، أو احدهما على الأقل ليحمل أخباراً سارة عن وضع فراس ، لكن أحداً منهما لم يعد ، ممّا زاد من قلق الجدة .
فكرت الجدة بان تستعين بأحد الجيران كي يحملها بسيارته إلى المستشفى لتطمئن على فراس ، لكن قلبها لم يطاوعها أن تترك الحفيدين رباب ويزيد وحدهما .
بعد أن غفا يزيد ، انسلت الجدة من جانبه بخفة ، اتكأت على الحائط دون أن تحمل عصاها خوفا من أن يستيقظ الطفلان ، نظرت إلى رباب وهي غافية في سريرها وسألت ربها قائلة :
لماذا يا ربّ لم تخلق رباب ولداً ذكراً لتكون عوناً لوالدها ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لو كانت " "مقصوفة " العمر ولداً لما غلبها احد ، وأما " البنات فهمهن للممات ".
عادت الجدة إلى الفراش ، احتضنت يزيد وضمته إلى صدرها ، كانت قلقة كالملدوغ تنام ساعة وتفيق أخرى من شدة قلقها على فراس ، مع أنها اطمأنت على صحته بعد أن تثاءبت في أعقاب رقيها له.
وعندما نادى المؤذن لصلاة الصبح ، قامت وصلّت ، ثم جلست على سجادة الصلاة تداعب خرزات مسبحتها بيدها . وقبل الضحى عاد مازن وصفية من المستشفى تعبين ، طرحا عليها تحية الصباح ، وقبل أن ترد على التحية بمثلها أو بأحسن ، استفسرت عن فراس ، فأخبرها مازن بأنه بخير، ولا خطر عليه فسألت :
- لماذا لم تحضراه معكما ؟
لأنه بحاجة إلى مراقبة طبية .
- وماذا ستفيده المراقبة الطبية ؟!
الأطباء أدرى بعملهم .
- لا .. إنهم لا يعرفون شيئاً ، بعد أن صليت المغرب ، عملت له " رقية " من عيون الحاسدات ، وتثاءبت ، فتأكد لي انه بخير ، ولولا " الرقية " التي عملتها لما أفاده الأطباء شيئاً.
ضحك مازن وصفية وقالا : الله يحفظك لنا ، ودخل مازن إلى غرفة النوم لينام ، في حين عرجت صفية على غرفة الأولاد ، وجدتهما مستيقظين ، قبلتهما ، وذهبت إلى المطبخ فأعدت لهما وللجدة طعام الفطور ، وبعد أن تناولا وجبتهما دخلت إلى غرفة النوم لتنام قليلاً ، فتبعها صوت الجدة يقول : ابتعدي عن مازن ، ولا تدخلي عنده .. دعيه يستريح ، فلم تكترث لذلك صفية ، دخلت إلى الغرفة ، استبدلت ملابسها ، واستلقت بجانب مازن على السرير منهكة .
لم يطل نوم صفية ، ربما نامت حوالي ساعتين ، ونهضت لإسكات رباب ويزيد حتى يتسنى لوالدهما أن يأخذ حاجته من النوم ، وكذلك الجدة غطت في نوم عميق لم يخلصها منه إلا أذان الظهر . في حين لم يستيقظ مازن إلا في الساعة الثالثة من بعد الظهر ، تناولوا طعامهم ، واستقلوا السيارة جميعهم لزيارة فراس في المستشفى ، كان الورم قد خفّ قليلاً في وجهه ، فعاد يستطيع فتح جزء من جفنيه ليرى من يجلس بجانبه ، وعندما رأته الجدة صرخت بصوت أذعر المرضى والزائرين الآخرين في الغرفة ، كما كان كافياً لهرولة الأطباء والممرضات إلى مصدر الصوت ظناً منهم أن احد المرضى قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، فهذه الصيحة لا تصدر إلا عن والدة ثكلى ، في حين تعوذت الجدة بالله من الشيطان الرجيم ورددت بسيطة .. بسيطة ..
اعتذر مازن للأطباء وللممرضات وللمرضى والزائرين عن صرخة والدته المدوية ، ومازح فراس قليلاً ، وطلب من والدته وزوجته وأبنائه أن يخرجوا من غرفة الإنعاش المكثف ليتركوا المرضى مرتاحين ، قاومت والدته محاولة عدم الخروج لكنها استسلمت في النهاية وخرجت .
حسن شمام- المساهمات : 138
تاريخ التسجيل : 22/12/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى